الأربعاء، 12 فبراير 2014

(الشيخ ) في جريدة أخبار الأدب المصرية

نصوص مهداه إلي نبتة:
إشارات 'الشيخ' وتجلياته! د. سعيد الوكيل
للشعراء سجلْطَة قاهرة تتجلي حين يعيدون التقاليد القديمة للهجاء، ومن ثم تتيح لهم فرصة النَّيل من النقاد الذين أخترعوا سلطة أخري ­ بحق أو بغير حق­ أتاحت لهم تشريح النصوص وأصحابها (بالتبعية) أحيانا، والحكم من ثَمٌ بالجرح والتعديل علي النص وصاحبه جميعا. لا تموت تقاليد الشعر القديمة إذن، كما لا تموت المفاهيم النقدية، بل تبقي التقاليد والمفاهيم خفية حينا وسافرة حينا.
يعيد علي منصور تقاليد الهجاء في إحدي قصائد الديوان، ومن ثم يؤسس بعض مفاهيمه للشعر، لكن هذا لا يعني علي الدوام إخلاص النص للشاعر وانسحاقه تحت وطأة القلم ليكتب ما شاء: فالنص يؤسس شعرية خاصة ومفاهيم تتصارع داخل جنبات الديوان.
الشاعر (عموما) مسكين لأنه يقول ما يظن أنه يريد أن يقوله، والناقد مسكين لأنه يري في النص غير ما أراد الشاعر، ومن ثم يهجوه الشاعر. علينا أن نعترف إذن بسلطة النص قبل سلطة الناقد المسكين، والشاعر.
ويبدو لي أن شعر علي منصور _علي مدي تاريخه­ يتأرجح بين هذين القطبين: الواقع والواقع الشعري. ألا تري إلي اسم ديوانه الأول ¢الفقراء ينهزمون في تجربة العشق¢ (الذي نشر عام 1990 علي الرغم من أن الشاعر ينتمي بحق إلي جيل السبعينيات)، وهو عنوان يختلف أيما اختلاف عن العناوين الأكثر شعرية لدواوينه الستة التالية التي تسبق ¢الشيخ¢.
العنوان والإهداء: عتبات التأويل
أما مفتاح هذا الديوان فيبدو أنه يكمن في العنوان والإهداء: فالعنوان هو ¢الشيخ¢، أما الإهداء فإنه ¢إلي نبتة برية قرب مثواي الأخير¢. فهل ¢الأنا¢ هي الشيخ نفسه الذي يهدي الشعر إلي من يشاركه العزاء حقا: النبتة التي تملأ عالمه الجديد حيث لا عزاء، بأنفاسها وما فيها من حياة تصله بعالمه الذي لم يكن يتمني أن يغادره: عالم الحياة الحقيقية: الشعر؟
إن القراءة المتأملة للديوان تكشف عن الحضور النباتي في كل القصائد (عدا القليل من قصائد الهجاء التي أراها الصوت الداخلي المضاد للشعر في داخل الديوان ومنها: ¢فانتازيا¢، و¢كلمة ضالة¢)، تعبيرا عن البديل الشعري للواقع الإنساني المتخلي. فهل فقدت الأنا ثقتها في الناس والعالم، ولم يبق سوي عالم النبتة رفيق طريق؟
الشعري يلوذ إذن بالطبيعي المتمثل في النبتة، بعيدا عن عالم الإنسان الذي يمكن تفكيك عناصره إلي: اللغة _ الحماقة _ الدخان _ الزحام _ التجهم _ الخَوَر _ اللهاث _ القتل _ الشذوذ _ الصخب _ الأرق من الموت. وفي المقابل يمكن تفكيك عناصر عالم النبات إلي: الصمت _ الحكمة _ منح الطمأنينة­ التسبيح _ العطاء _ الإيمان _ الحياء _ الرضي بالذبول).
الصورة _ الأمثولة ­ المعادل الموضوعي
ولو أننا فككنا عناصر الصورة التي رجسمت للشيخ ­ عبر مراحل عمره ­ منذ الصبا وحتي الاستعداد للموت: لوجدنا ­تقريبا­ العناصر نفسها التي تشكٌل عالم النبتة (بتجلياته المختلفة: الزهرة­ الشجرة... إلخ). فالديوان يبني نموذجا إنسانيا (ولا يشغلنا إذا كان يشير إلي الشاعر أو أبيه أو سواهما) هو الشيخ: صوت الحكمة والإيمان والورع والروح والآي. ومن ثم تبدو النبتة معادله الموضوعي.
التميز في بناء المعادل الموضوعي داخل الديوان يتمثل في أن خلق المعادل يتأتي من مأتي بعيد، وذلك علي مدي الديوان في مجمله، كما أن بناء المعادل الموضوعي لا يتجاهل الطبيعة الخاصة أو المجال الحيوي للمشبه به، فكأنه يخلق أمثولة شعرية نستطيع أن نربطها بمعادل أو لا نربطها. وربما يكشف تأمل بعض الصور التي تكاد تكون متوازية للشيخ والنبتة عن بعض ملامح تلك الأمثولة:
ملامح الشيخ
الغلام ذو البشاشة _ ذو الصوت المبلل بالنعمة والرضوان­ الغلام الجميل كأجتْرججَّة­ المنوَّر بيقينه
­ غرس الفسيلة وهو يدعو:
رب اجعل هذا عملا صالحا
ألقي التحية علي الجيران، وابتسامته تشهد ...
­ قلبه أخضر، هذا الشيخ،
ووجهه صبوح
كأنما السكينة انتحلت هيئته.
­ أنت أيضا جنايني...!
كل صباح، ترش قلبكَ
بالقرآن الكريم (ص 62)
إنها صور متفرقة ترسم ملامح شخصيات متنوعة، لكنها تبني معا صورة فسيفسائية شديدة الوضوح للشيخ وتربطه علي نحو ما بعالم النبات.
ملامح النبتة
­ تهرب الحكمة من لغونا وتلوذ بصمت النباتات.
­ ما من شجرة واحدة قد قطبت الجبين .
­ ثلاث زهرات جاردينيا
همسن لربة المنزل...
سنكمل ترتيل سورة مريم.
إن القارئ الأريب يستطيع أن يعقد المشابهات ليتبين صدق القول بإقامة علاقة ­ تخفَي حينا وتتبدي بجلاء حينا ­ بين صورة الشيخ والنبتة، لبناء صورة شعرية شديدة الصفاء والبساطة والعمق.
الالتزام والصوت المضاد للشعر
ما سبق أن أشرتج إليه عابرا، من صوت مضاد للشعر يتمثل في قصائد تجبني منطقيا وتشير إلي الواقع علي نحو يكاد يكون مباشرا. إنها القصائد التي تحاول تحمل مفهوم ¢الالتزام¢، وهي:
1­ ¢أثر عربي¢: وهي قصيدة جميلة كان يمكن أن تنأي عن المباشرة لو احتفظ الشاعر بالعنوان، ولم يخاطب قائلا: أيها العربي (في السطر الثاني) ولم يجنْه النص بالخطاب: ¢يا أيها العربي¢.
2­ الشاعر المسكين.
3­ ¢همهمة تماثيل مصرية¢: وهي قصيدة لا يعيبها سوي عنوانها شديد المباشرة، والذي يخنق دلالة النص. وعلي الرغم مما يفعله العنوان: فإن النص تأبٌي علي ذلك التصنيف، واقترح­ نظرا لشعريته الفائقة­ أن يضرب القارئ صفحا عن العنوان ويقرأ النص خالصا من ذلك التقيد الذي ألزم الشاعر إيانا به وهو مما لا يلزم.
4­ ¢كأنها سياج¢: إنها قصيدة ترصد شعور رجل عاجز عن أن يفعل مثل ما يفعله ناخبون في التلفاز إذ يدلون بأصواتهم في الصناديق:
¢وهو يتفرج عليهم
ودٌ لو جرب شعورا مثل هذا،
قبل أن يموت
كأنها مزهريات، هذه الصناديق!!
كأنها حدائق ....
كأنها سياج
يحرس الوطن في الليل¢.
وتستمر القصيدة في وصف الصناديق التي تعبر عن حماية رأي الجماعة في مقابل القهر الذي لا تعرف مظاهره سوي في عجز ذلك الرجل أمام التلفاز. تحتال القصيدة إذن لكي لا تعبر علي نحو مباشر، وتنجح حقا.
إن الديوان مبني علي تحاور صوتين: أولهما الصوت المعبر عن مسيرة الشيخ متماهية مع البنية التي تمثل المعادل الموضوعي له، والصوت الآخر هو الصوت المباشر المعبر عن الواقع القاهر. ويتوج تلك الثنائية قصيدة تختم الديوان (قصيدة: حَب ونوي)، وتتميز عن سائر القصائد بطبيعتها الشكلية: فهي تنقسم داخليا إلي مجموعة مقطوعات قصيرة يحمل كل منها عنوانا خاصا، وهي شديدة الاختزال جاءت في صيغ أشبه بالصيغ الحِكمية، تلخص رؤية أخلاقية وتصورا للعالم يليقان بشيخ يؤرَّخ له شعريا. الشعري والسردي:
تبقي الإشارة إلي ما يميز الديوان من تنويع في طرائق الإبداع الشعري، ومن ذلك اللجوء إلي دمج الغنائي بالسردي، ولعل أوضح القصائد التي تكشف عن هذا الملمح قصيدة ¢حالة حرجة¢. تنقسم القصيدة إلي حركتين قصيرتين لا تستغرق الأولي أكثر من عدة كلمات موزعة علي سطرين، لكنها تقدم مشهدا بالغ الشعرية، يصور الأنا (الراوي) وهي ترصد فتاة (مريضة في حالة حرجة كما نفهم من العنوان):
¢لمحتج حلما،
فوق شفتين نائمتينْ¢
أما المشهد الآخَر فينتقل إلي ¢وصف¢ من يدفعون بجسد تلك الفتاة علي ¢التروللي¢. ثم يعود صوت الأنا مرة أخري ليفكك الحلم الذي أشيرَ إليه في الحركة الأولي إلي: عروس _ ثوب أبيض _ زغرودة الأم، ولا يغفل أن يفيد من الإمكانات السردية فيصف تلك الزغرودة بالممر الذي لمحناه في بداية المشهد:
¢كانوا يدفعون التروللي
ويهرعون
في الممر الطويل.
مرت الجلبة،
وظل معي ما لمحته
في
ابتسامة
الشفتين:
العروس، في ثوبها الأبيض.
وزغرودة أمها
أطول _ بكثير _
من الممر¢ (ص 45)
إنه _ في هذه القصيدة وغيرها ­ يستحضر شخصيات وحوارات ووصفا، ويصٌاعد بالأحداث ويكثفها، ويصنع صنيع القاص في مواطن كثيرة (كما في القصائد: في تقديم التلاوة _ قالت صخرة وقالت شجرة وقالت زهرة ياسمين _ المنوٌر بيقينه _ الشيخ _ حكاية عن الشجرة)، لكنه ينجح في تضفير تلك الطرائق ليخلق نصا شعريا بامتياز.


حوار الشاعر مع مجلة الأهرام العربي

400‏السنة 123-العدد2004نوفمبر
20‏7 شوال 1425هـالسبت
الصفحةالأولى
أول الأسبوع
أول الكلام
نحن والعالم
كاريكاتير
سوق ومال
حياة الناس
ثقافة
فن
ليل و نهار
ملاعب العرب
مساحة للحوار
الواحة
المحطة الأخيرة
مقالات

علي منصور لقبه البعض بشاعر قصيدة النثر الإسلامية‏:‏

موقف عبدالمعطي حجازي انفعالي ولا ننتظر اعتذاره

أجري الحديث ـ مصطفي عبادة
تصوير‏-‏ موسي محمود


هذا شاعر إشكالي‏.‏
شهدت مسيرته الشعرية تحولات حادة‏,‏ بدأ سياسيا مهموما وجاءت قصيدته حاملة لكل هذه الهموم‏,‏ ثم انتقل إلي قصيدة النثر بسبب شكه وعدم إيمانه بالمرجعيات التي تحكم القصيدة العربية عمودية وتفعيلية‏,‏ وذلك بسبب غزو صدام للكويت‏(‏ كان يعمل هناك‏),‏ حيث وجد نفسه في الصحراء وحيدا بلا ماض أو تاريخ كما كان يظن‏,‏ وهو في قصيدة النثر أحد المتميزين‏,‏ رسم طريقا تخصه بالاعتماد علي اللغة السهلة التي ربما تخرج أحيانا علي الشاعرية‏,‏ وعلي الإيقاع المهموس‏,‏ تدور عوالمه الشعرية حول البراءة الأولي كأنه يخترع تاريخا جديدا لنفسه‏,‏ وكانت خطوته الأهم علي مستوي التشكيل اللغوي حينما تماهت مفرداته مع لغة النص المقدس وتسرب روح القرآن في قصيدته حتي إن البعض لقبه بشاعر قصيدة النثر الإسلامية‏,‏ وقد بدا فرحا بهذه التسمية رغم خطورتها فنيا علي الشعر‏,‏ حول كل هذه القضايا ومشكلات قصيدة النثر كان لنا معه هذا الحوار‏..
‏**‏ تتماهي لغتك أحيانا مع المقدس‏,‏ هل تفعل ذلك قاصدا؟
لا‏.‏ إنما يأتي ذلك بشكل عفوي‏,‏ وفق الذائقة‏,‏ فأنا مفعم بالمقدس منذ الطفولة‏,‏ وحتي في كتاباتي الأولي حينما كنت واقعا تحت سطوة الأيديولوجيا‏,‏ الماركسية تحديدا‏,‏ وطغت في نصوصي مفردات من قبيل الحزب‏,‏ والفقراء‏,‏ والعمال‏,‏ والحارات‏,‏ واللجنة المركزية‏,‏ والإضراب‏,‏ والشعب‏,‏ والمخبر‏,‏ إلي آخر ذلك‏,‏ لم تخل هذه النصوص أيضا من تماس مع الدين‏,‏ وتحديدا مع لغة القرآن الكريم‏,‏ بل هناك قصائد اتكأت بشكل كامل علي أحداث تاريخية إسلامية مثل حادث الهجرة‏,‏ وحادث نزول الوحي‏,‏ وغيرهما‏.‏ إنني لا أسعي إلي اللغة في النص كغاية في حد ذاتها‏,‏ وإنما الفكرة المطروحة في النص‏,‏ والمعني المنشود منه هما اللذان يدفعانني إلي انتقاء مفردات بعينها وصولا إلي لغة أتصور أنها ستنجح في تحقيق ذلك المعني أو تجسيد تلك الفكرة‏,‏ أنا شديد الحرص علي المعني‏,‏ وفي ذات الوقت لا أحب له أن يتجسد إلا عبر لغة قريبة من القلب‏,‏ وكذا مفردا ت بيني وبينها حميمية خاصة‏.‏
‏**‏ هل إلي الحد الذي يجعلك تصد ر أحد دواوينك بحديث شريف؟
ولم لا؟إذا كنت أري أن هذا سيسهم في تحقيق فنية العمل‏,‏ إنني قد صدرت ديوانا سابقا بنص للحكيم الصيني لاوتسو دون أن يسبب ذلك أدني حساسية لدي البعض‏,‏ كما أن التصدير الذي تشير إليه تضمن أيضا إلي جانب الحديث الشريف نصا آخر للحكيم الفرعوني أمنموبي لماذا لم يلفت انتباهك سوي الحديث الشريف‏.‏ وهل إذا كان التصدير قد اقتصر علي قول أمنموبي لمر الأمر دونما دهشة‏!!‏ ولماذا لم تلتفت إلي دلالة التجاور بين الحديث الشريف ونص أمنموبي‏,‏ يا صديقي لا يجب أن يدفعنا الخجل مما آلت إليه أحوال المسلمين إلي أن نخجل من الدين ذاته‏,‏ أو أن يصيبنا الحرج من التماس معه في كتابتنا‏.‏
‏**‏ هل من أجل هذا لقبك البعض بشاعر قصيدة النثر الإسلامية؟
لا أعلم أن أحدا لقبني بهذا اللقب‏,‏ قرأت فقط أن الأستاذ الشاعر عبدالمنعم عواد يوسف كان قد ألقي بحثا عن ديوان عشر نجمات لمساء وحيد في المؤتمر السادس لرابطة الأدب الإسلامي‏,‏ في ندوة تقريب المفاهيم‏,‏ وكان عنوانه قصيدة النثر من منظور إسلامي علي منصور نموذجا‏,‏ وقرأت أيضا أن هذا البحث أثار زوبعة أدبية وقوبل باعتراض شبه جهري من أكثر الحاضرين‏,‏ لكن الأستاذ الدكتور حسن الإمراني رئيس تحرير مجلة المشكاة المغربية‏,‏ والذي كان شاهدا علي وقائع هذه الندوة كتب افتتاحية العدد رقم‏40‏ عن هذا الديوان متخذا له عنوان نمط جديد في الكتابة‏,‏ راصدا الملابسات والاعتراضات ومتوقفا أمام بعض النصوص مثنيا عليها ومتحمسا لها حتي إنه اعتبرها منارات في الطريق الذي بشر به الأستاذ محمد قطب‏.‏
‏**‏ هل أنت سعيد بهذا اللقب؟
هذا شرف لا أدعيه‏,‏ واتهام لا أنكره‏.‏
‏**‏ لماذا؟
لأنه لا يوجد شئ اسمه شاعر قصيدة النثر الإسلامية وإن وجد فلن يستحقه إلا من يستطيع أن ينهض بالمسلمين أو أن يسهم في نهضتهم من خلال قصيدته النثرية‏.‏
أما أنه اتهام لا أنكره‏,‏ فذلك حتي لا يظن أحد أنني أخجل من التماس مع هذا الدين الحق في كتابتي‏.‏
‏**‏ هل في الفن إسلامي وغير إسلامي‏,‏ الفن متغير والمقدس ثابت‏,‏ كيف توفق بين الأمرين؟
لا‏,‏ ليس في الفن إسلامي وغير إسلامي‏,‏ ولكن في الفن تأثيرات إسلامية وأخري غير إسلامية‏.‏ فمثلا حينما نقول العمارة الإسلامية فهذا يعني أن العمران في أوج العصر الإسلامي اتخذ لنفسه ملامح وخصائص ميزته عن غيره‏,‏ وكان ذلك بفعل وإيحاء من الثقافة الإسلامية‏,‏ وكذلك حينما نقول الفن القبطي‏.‏ هناك بالتأكيد مؤثرات في الفنون‏,‏ والدين الإسلامي من بينها‏.‏
أحمد عبد المعطى حجازى
**‏ من أول من أطلق عليك هذه التسمية؟
أنت‏,‏ هنا في هذا الحوار‏,‏ ويبدو أنك مغرض‏,‏ إذ تود أن تختزل تجربة قوامها سبع مجموعات شعرية في ملمح واحد فقط طغي في مجموعة واحدة هي عشر نجمات لمساء وحيد‏.‏ اسمع إذن‏,‏ أنا أكثر شاعر مصري تناسل فيمن جاء بعده من شعراء‏,‏ وعشرات النصوص التي تكتب الآن يمكنك ردها بسهولة إلي مجموعة ثمة موسيقي تنزل السلالم‏.‏
‏**‏ انتقلت إلي كتابة قصيدة النثر فجأة‏,‏ وكنت مصرا علي قصيدة التفعيلة‏,‏ متي حدث ذلك بالضبط‏,‏ ولماذا؟
في صباح الخميس الثاني من أغسطس عام‏1990,‏ تعرضت مسلمات كثيرة لامتحان قاس لم تحتمله في قليل أو كثير‏,‏ تخلخلت قناعات كثيرة‏,‏ واستيقظت شكوك أكثر‏,‏ وانسحب ذلك علي عديد من التصورات السابقة‏.‏ أدركت أن ثمة انفصاما بين القول وبين الفعل‏.‏
وشعرت بهوة صارخة تفصل بين ما هو طاغ في الذهن وما هو منحسر في الواقع‏.‏ لم أدر إلا وأنا أكتب قصائد نثرية لا تعول علي شئ‏,‏ وأنا أيضا كنت غير معول علي شئ‏,‏ لا علي ما أكتب ولا علي رد الفعل لما أكتب‏.‏ فقط كنت في حاجة إلي العثور علي ما يجعلني أتماسك من جديد‏,‏ كنت في حاجة إلي قناعات جديدة‏.‏ وكما تري لم يكن ثمة تعمد في التخلص من تأثيرات السابقين‏,‏ ولا كانت ثمة قصدية في الانتقال إلي كتابة قصيدة النثر‏,‏ محض انتقال للذائقة من طور إلي طور آخر ومحض ظرف تاريخي أدي إلي زحزحة قناعات لصالح قناعات أخري‏.‏
‏**‏ في أغلب قصائدك في الدواوين الأربعة الأخيرة‏,‏ هناك فتاة مراهقة في حالة حب‏,‏ وفتي ينتظرها‏,‏ يبدو لي أن رؤيتك للعالم تبدأ من هنا‏.‏
تأسرني دائما تلك الـ حالة حب في الكتابة‏,‏ ربما لأن العالم تسوده حالة كراهية وعداء‏,‏ وأن قوي الشر تحرك البشرية بعيدا عن حاجات الروح‏,‏ إن تفشي القسوة والظلم قد شوه روح البشر بدرجة مرعبة‏,‏ وفي مواجهة هذا‏,‏ ليس أمام الضعيف سوي أن يستن شريعته بالغناء لمبادئ الفطرة‏,‏ والعزف علي أشواق لا تجف‏.‏
‏**‏ جنحت القصيدة الجديدة إلي اللغة السهلة‏,‏ لغتك بالأخص مضت إلي آخر الخط في هذا الطريق‏,‏ وأحيانا تخرج علي الشعرية‏,‏ كيف تري هذه القضية؟
أنا لا أريد للغة أن تتجاوز مهمتها في القصيدة‏,‏ لا أريد لها أن تتحول من كونها أداة للشعر‏,‏ فتصبح هي الشعر ذاته‏.‏ من هنا فأنا أميل دائما للغة القريبة متصورا أن شعرية قصيدة النثر تعتمد في أحد جوانبها علي هذه الخاصية‏,‏ ومدركا في ذات الوقت أنها مخاطرة كبيرة قد تهدر شعرية النص بالكامل ما لم يتم استغلال هذه البساطة والسهولة اللغوية في تحقيق مزج بين العمق والوضوح‏,‏ بين المفارقة والعفوية‏,‏ بين الإدهاش وعدم الافتعال‏.‏ إن شعرية قصيدة النثر هي بالدرجة الأولي شعرية حالة‏,‏ ولهذا فإن الموهبة تلعب أهم الأدوار‏,‏ فإذا غابت أو خفتت سقط النص سقوطا مدويا‏.‏
‏**‏ يشكو شعراء القصيدة الجديدة من ظلم المؤسسات في الوقت الذي صدر لك ولغيرك دواوين عبر مكتبة الأسرة‏,‏ كما أن حجازي اعتذر عن موقفه منكم‏,‏ هل تستمرون في حالة الشكوي؟
حكاية الشكوي من ظلم المؤسسات هذه حكاية عجيبة ومضحكة‏,‏ فمثلا بعض الكتاب الكبار لا يفتأون يهاجمون المؤسسة ويعلنون أنهم ضد المؤسسة ولو تأملت في الأمر جيدا لوجدت أن الواحد منهم مؤسسة بكاملها‏,‏ بل ويمارس علي الآخرين ممارسات ربما أقسي مما يشكو منها‏.‏ أما شكاوي شعراء القصيدة الجديدة‏,‏ فكل يغني علي ليلاه‏,‏ وليلي هذه قد تكون منحة تفرغ‏,‏ أو ترشيح لجائزة‏,‏ أو مضاعفة مكافأة نشر‏,‏ أو المشاركة في أحد المؤتمرات بالخارج إلي آخره‏.‏ الغريب أن أكثر الأصوات شكوي من المؤسسة قد تكون أكثر المستفيدين منها‏.‏ قليلون هم الذين لم يتورطوا في هذه اللعبة المكشوفة فلم يجأروا بشكوي‏,‏ ولم يعولوا علي شئ من قبلها‏,‏ لأنهم ببساطة لا ليلي لهم لدي المؤسسة‏.‏ أما بخصوص مجموعتي التي صدرت عن مكتبة الأسرة فيكفي أن تعلم أنها مجموعتي الشعرية الأولي تمت إجازتها للنشر في الهيئة عام‏1986‏ في سلسلة إشراقات أدبية‏,‏ لكنها لم تنشر‏,‏ وأصدرتها علي نفقتي عام‏1990,‏ ولما عرض علي التقدم بكتاب للنشر في مكتبة الأسرة تقدمت بذات المجموعة لكي تنشر بعد مرور ثمانية عشر عاما علي تاريخ إجازتها للنشر أول مرة‏.‏ أما عن اعتذار الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي عن موقفه من شعراء قصيدة النثر‏,‏ فأنا شخصيا لم أكن أنتظر منه أي اعتذار‏,‏ لأنني كنت موقنا تماما أن المسألة كلها مجرد موقف انفعالي ليس أكثر‏,‏ وأنه ابتعد عنها فترة طويلة ربما لانشغاله باهتمامات أخري‏.‏ فات أوان الشكوي يا صديقي‏,‏ هذا أوان الحزن والحداد‏,‏ حتي علي الأحلام الصغيرة‏.‏
‏**‏ بعض النقاد والشعراء أيضا يعتبرون قصيدة النثر جنسا أدبيا مستقلا‏,‏ فهل توافق علي ذلك؟
بالطبع لا‏.‏ فأنا أري أن قصيدة النثر هي التطور الطبيعي لقصيدة التفعيلة‏,‏ وأري أنها مرشحة للبقاء طويلا مثلما حدث مع القصيدة العمودية‏.‏ وأري أن قصيدة التفعيلة لم تكن سوي مرحلة انتقالية بين شكلين معمرين هما قصيدة العمود وقصيدة النثر‏.‏
‏**‏ مر وقت طويل‏,‏ ولم يكتمل الإطار النظري لقصيدة النثر‏,‏ لماذا؟
ربما لم يمر وقت طويل‏,‏ إذا أخذنا في الحسبان التوقع بأنها ستكون أحد الأشكال المعمرة في الشعر‏,‏ وربما يكون ذلك من سمات مرحلة تاريخية مختلفة‏,‏ فلا شئ يكتمل له إطار نظري‏.‏
قل لي مثلا ما الإطار النظري لـ النظام العالمي الجديد الذي طفا علي السطح منذ انهيار الاتحاد السوفيتي‏!!‏ وما هو الإطار النظري للإرهاب‏,‏ الذي تحت شعار مكافحته تتغير خرائط البلدان والشعوب‏.‏
‏**‏ أين نقاد هذه القصيدة الجديدة‏,‏ ولماذا لم تفرز نقادها؟
لا توجد حركة نقدية جادة مواكبة لقصيدة النثر وقد يرجع ذلك إلي عدة أسباب منها التفاوت الكبير في النصوص التي تنتمي إلي هذا الشكل‏,‏ الأمر الذي قد يدفع الناقد الجاد إلي التراجع عن دراسة النماذج العالية حينما يواجه بطوفان من النماذج المتواضعة والركيكة‏.‏
أيضا قد يتراجع الناقد الجاد عن تناول هذه القصيدة بالنقد والدراسة حينما يري أن الساحة النقدية تعج بأشباه النقاد ولا تقل عن الساحة الشعرية اضطرابا وبلبلة فيؤثر الصمت علي أن يتورط في الولوج لساحة الشبهات‏.‏ وربما يجفل الناقد أخيرا عن بحث وتحليل هذا الشكل الشعري الجديد علي أثر المعارك التي تنشب علي صفحات الجرائد بين الحين والحين حول قصيدة النثر ومدي مشروعيتها‏.‏
‏**‏ هل نستطيع القول إنك بدأت واقعيا وانتهيت مثاليا إسلاميا؟
لا‏.‏ الحقيقة أنني كنت مثاليا علي طول الخط ومنذ البداية‏,‏ فقط تعرضت لامتحان أن أكون واقعيا‏,‏ ولم أجتزه‏,‏ الواقعي هو السياسي‏,‏ والمثالي هو الشاعر‏,‏ ويبدو أن المثالي قد تغلب‏,‏ لأنه كان هو الجوهر وتنحي الواقعي لأنه كان هو الطارئ‏*‏


(الشيخ ) في جريدة النهار اللبنانية

الشيخ




//

مقالي اليوم في النهار

//

الـشـــــيـخ.. لـعــــلـي مـنـــصـــــور

لـغــــة الــشـــــعــر ســـــــرديّـــة وزاهـــــــدة

..
القاهرة

..

يفتتح الشاعر علي منصور مجموعته الشعرية الثامنة، "الشيخ"، الصادرة حديثاً في القاهرة، لدى "دار شرقيات" للنشر، بإهدائه الموغل في الحزن "إلى نبتة في البرية، قرب مثواي الأخير"، متكئاً على حالة صوفية، أقرب ما تكون إلى الزهد الخالص، جوهرها الرغبة في الخلاص من أثر الواقع وجموده، ورومنطيقية جديدة تسعى إلى أنسنة الأشياء، والكائنات، والنباتات، والأشجار على وجه الخصوص، من دون الانتقاص من دورها في تشكيل خرائط الحياة: "النباتات، يا صاحبي،/ النباتات...!/ تهرب الحكمة من لغونا/ تلوذ بصمت النباتات!/ حتى إذا ما هرمنا،/ وصرنا شيوخا... صامتين/ عادت أدراجها،/ وتوسدت/ تجاعيدنا!".يقيم علي منصور في هيئته الصوفية هذه، تناصاً مع الآيات القرآنية، ليس بغرض إبراز الملمح الديني، والإلماح إلى هاجس مؤرق حول معنى الحياة، تُشحن فيه روحه بشاعرية تأتيه كلما أصاخ السمع إلى التلاوة القرآنية بمذاهبها المختلفة، بقدر اهتمامه بتطويع اللغة، وإكسابها دفقة موسيقية عالية: "لكنها يده التي استبقتني/ وهدهدت قلبي:/ (أنصت، لسورة الحديد، يا بني)/ وربت، ثانية، على كتفي/ ثم إبتسم للشجرة.../ الشجرة التي تقرأ/ برواية ورش عن نافع!". وهو يفعل ذلك في محاولة تجريد الكلمات من ضلالها، حين تخون المعنى، ويصبح الوقوف أمام تركيبتها ضرورة، تستحضر السؤال، والدهشة أمام القارئ، ليعيد التفكير فيها من جديد.يكتب علي منصور شعراً متناهياً في البساطة، غايته أن يشاركه العابرون لحظاته الأثيرة، من دون استعارات ضخمة، أو لغة مقعرة، تصبح كأبواب المدن الموصدة في وجه العابرين: "تفضل.../ أيها العابر الخفيف، تعال.../ هنا إلى جواري/ حيث نفسح للحكاية والدموع". حين يطمئن إليه العابر، يفرش ماضيه بين يديه، ويقص عليه حكاية البنت، التي كان يرتبك كثيراً حينما يراها، البنت التي دق قلبه حتى فضحه عندما دنت منه، وفتحت في صدره نهراً، وأنعشته بالياسمين حين تزوجها.يهيىء الشاعر قارئه في أكثر من قصيدة، لتأمل حاله العربية، السياسية الراهنة، التي لا يملك فيها رأياً، أو قدرة على المشاركة في صنع قرار يخصه، خاضعاً لمبررات الهيمنة الخارجية. يدعوه إلى أن يجرب حياة أخرى، أن يترك أثراً عربياً غير الهوان، يستحق أن يعيش من أجله، وأن يقتنص حياته من يد مغتصبيها: "الغرباء الذين تتابعوا ها هنا، خفية/ وواقعوا نسوة في الدّبر،/ مضوا.../ مخلفين وراءهم روائحهم السامة/ وبقايا/ آهاتٍ/ مقفاةٍ/ بقهقهات الشياطين".حين يتربّى الشعر على الحكايات، ويحتل السرد أعمدة بنائه، تصبح السيرة جزءاً من نسيج القصيدة، ويكون للراوي رائحة، ينجذب إليها الشارد، ويستريح إلى ظله المتعب. ذلك ما يوظفه علي منصور في مجموعته، حين يدعو القارىء للجلوس إلى راويه: "مساء جمعة من شتاء،/ - أمام بيتنا القديم -/ أشعل أبي النار في الخشب./ فالتففنا.../ على المصطبة.../ في اتجاه اللهب./ تماماً.../ كأسلافنا القدماء/ في لوحة/ على جدران مقبرة". ويكتمل المشهد بـ"شيخ القراءات السبع"، الذي تمنى الشاعر أن يكونه، أو أن يكون له صوته، لما تركه من أثر عميق في وجدانه، وبات يراه أينما حَلّ.وإمعاناً في الزهد يبحر في الأبجدية، التي تبدأ بالألف وتنتهي بالياء، ليعود إلى مبتغاه، ويجرد الحروف من تضليلها للقارىء: "كم هو زائف، انتصاب تلك الألف!/ كم هو شكلي،/ وكله خداع!/ انظروا.../ وأنظر يا علي.../ إنه ينتصب على شيء دنيء!/ شيء متاع".الجزء الأخير من المجموعة، "حَبّ ونوَى"، يخصه الشاعر بمجموعة من القصائد القصيرة، المكتنزة المعنى، والتي تعطي مدلولها مباشرة، بوهج شاعري دافق، مغلفة بنوع من حكمة الشيخ، التي خبرها من حياته الأولى في بداية المجموعة الشعرية، مستعيداً صوت الراوي، وهو يجلس تحت شجرة المعرفة، يعلّم الناس، ويبث في أرواحهم ملامح الجَمال: "يمكنك أن تصبح جميلا، فوق ما تتصور/ فقط/ اعتن بقلبك/ ودعه يحب الآخرين"، وإن لم يكن في مقدوره أن يجتاز ويسمو، على الأقل يمكنه الإنصات إلى نفسه: "لا تكن حجر عثرة/ في طريق/ كن قنطرة، بين ضفتين"."الشيخ" علي منصور يعكف في معمله الصيدلي، على نباتات الشعر، وأشجاره، يحلّلها، ويجرب أن يستدل من النواة المتناهية الصغر، على حياة الغابة بأكملها، يستقي من تفاعلاتها خلاصة التجربة الشعرية، يبثها في قصائده بزخم إنساني فياض، ليؤكد إخلاصه لقصيدة النثر، في ثماني مجموعات شعرية، بدأها بـ"الفقراء ينهزمون في تجربة العشق" عام 1990، واستمر في بناء مشروعه الشعري بصمت، وشغف لتجريد اللغة من زوائدها، وإستخلاص روح الشعر، مستفيداً من روح العصر، من دون أن يتخلى عن تراثه العربي، وهو ما يستحق عليه إلتفاتاً نقدياً منصِفاً
..

محمد العشري

//

(الشيخ) في جريدة الأخبار اللبنانية

علي منصور

أنهاج السياق الشعري عند علي منصور

علي منصور ، شعرية الخفة التي تحتمل .

حوار للشاعر مع جريدة القدس العربي

حوار للشاعر مع جريدة الثورة اليمنية



قال إن الزمن استبدل "الشاعر المهم بـالظاهرة الشعرية:
الشاعر المصري /علي منصور: أزمة المشهد العربي سببها التخلف وغياب الحرية وسطوة النقد المنافق
إن الذين لا يكفون عن (الغناء) للحرية في قصائدهم العمودية والتفعيلية هم الذين يتربصون لقصيدة النثر!
"الخميس, 29-ديسمبر-2005" - القاهرة/ سمير درويش
علي منصور واحد من أهم شعراء "قصيدة النثر" في مصر.. إذا أزحنا الإرهاصات البدائية في السبعينيات وقصائد جماعة شعر التي تنتمي إلى قصيدة التفعيلة وإن تخلت عن الوزن الخليلي، ليس ـ فقط ـ لأنه من أوائل الذين اتجهوا إليها مع بداية التسعينيات من القرن الماضي، ولا للاحتفاء النقدي الذي يقابل كل مجموعة شعرية جديدة يصدرها، ولا لأنه الأغزر إنتاجاً بين أقرانه.. ولكن ـ بالإضافة إلى كل ذلك ـ لأنه يمتلك صوتاً خاصاً، رائقاً، يحمله معه عبر دواوينه المتعاقبة، ويمتلك ـ كذلك ـ تجربة فريدة مكنته من التقاط الشعري من ما يبدو غير شعري، فأصبحت قصائده، أو بعضها على أقل تقدير، ممثلة لتجربة النثر ولجمالياتها العصية ـ حتى الآن ـ على التنميط.
ولد في نهاية عام 1956 بإحدى محافظات الدلتا شمال القاهرة، وتخرج من كلية الصيدلة، جامعة القاهرة، وحصل على درجة الماجستير في العلوم الصيدلية. صدر له ثمان مجموعات شعرية هي: "الفقراء ينهزمون في تجربة العشق" 1990، "وردة الكيمياء الجميلة" 1993، "على بعد خطوة" 1992، "ثمة موسيقى تنزل السلالم" 1995، "عصافير خضراء قرب بحيرة صافية" 1998، "عشر نجمات لمساء وحيد" 2002، "خيال مراهق، وقصائد أخرى " 2003، و"الشيخ" 2005م.
التقيته وكان هذا الحوار:
> بالرغم من بداياتك التفعيلية، فإنك اتجهت إلى قصيدة النثر، ما الذي دفعك إلى هذا الاختيار، وهل تعتقد أنها وريث الشعر العربي أم أنها مجرد صورة من صوره؟
- نعم، لقد كتبت ثلاث مجموعات تنتمي كلها إلى ما يسمى بقصيدة التفعيلة ، وذلك قبل أن أتحول إلى كتابة قصيدة النثر عبر مجموعتي الشعرية "على بعد خطوة" ولم يحدث هذا التحول عن عمد أو تخطيط مسبق، حتى إنك لتجد القصيدتين الأوليين، أو ربما الثلاث قصائد الأولى في هذه المجموعة، تجدها قصائد تفعيلة بينما باقي القصائد نثرية، وهذه المجموعة تحديدا "على بعد خطوة" تكشف وتعري حالتي النفسية والفكرية حال تحولي نحو قصيدة النثر. كنت في حالة من الإعياء النفسي والشعور بالصدمة جراء الصحو على حقيقة مرة تماماً كحال المثقف حين صحا على خبر هزيمة يونيو 67 ولم يكن السبب في ذلك هو الغزو العراقي للكويت فقط، وقد عايشت ذلك الفعل ـ الذي لم يستسغه عقل ولا منطق ـ عن قرب، وإنما، أيضا، ما تلى ذلك من انقسام عربي وصل حد الفتنة التي أودت بكل مقدرات الأمة العربية وأوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن.
أن يحدث ذلك بعد آلاف القصائد التي كانت تهدر كل عام في المربد، ببلاغتها ورصانتها ودويها، عن الأمة العربية الواحدة، والمصير العربي الواحد، وأن يحدث ذلك بين أشقاء الوطن والدين واللغة وأيضا العدو!! فأي خيانة، وأي خديعة وأي كارثة مهدت لها تلك القصائد إذن!! وأي كذب بليغ كانت تمارسه على المشاعر والعقول! لم يكن أمام المرء إزاء الصدمة مما وقع، والدهشة من دفاع البعض عن الضلال ومساندة الباطل، لم يكن أمام المرء سوى ازدراء كل أضلاع الجريمة، بدءأً من الفاعل والفعل وانتهاء بالأدوات المساعدة! ولم يكن أمام المرء سوى التوقف عن الكتابة نهائيا، لكن كيف ذلك والكتابة أصلاً تكون الملاذ الأخير في مثل هذه الحالات من القنوط والإحباط!
بدأت أتحسس روحي المتداعية وأحاول أن أسري عنها بكتابة تخلت طواعية وربما دون وعي عن ميراثها القديم، وفرت مثل بنت تهرب من عائلة كاذبة لتؤسس لنفسها عائلة أخرى، أول ما تتسم به هو صدقها مع نفسها. وأنا أتصور أن هذا التحول كان سوف يحدث سواء غزا العراق الكويت أم لم يغزه، فما حدث لم يكن سوى القشة التي قصمت ظهر البعير المتهالك، ولم تكن سوى عود الثقاب الذي بدد كذب الرطانات المتراكمة على العيون والعقول.
ثم ماذا كان البديل؟ أَوَ كُنَّا نواصل القصائد إياها بعد انهيار كل ما كانت معنية به، تماماً كما تفعل جامعة الدول العربية الآن وتصر على عقد دوراتها العادية والاستثنائية دون جدوى؟ أم كنا نواصل القصائد إياها لنعبر بها عما لم تخلق من أجله؟!
قلت في نفسي، وأنا أكتب "على بعد خطوة"، و"ثمة موسيقى تنزل السلالم"، لا يهم أن يكون ما أكتبه هو الشعر، لم أعد أطمح لأن أكون شاعراً! أطمح فقط في أن أسرِّي عن روحي، بكتابة صادقة. ولهذا السبب فأنا لست معنيا بالمرة بكون قصيدة النثر هي وريث الشعر العربي أم لا. لقد قلت ذات مرة إن قصيدة التفعيلة ليست إلا مرحلة انتقالية بين قصيدة العمود وقصيدة النثر، واليوم أتساءل: ما الضرر الذي أصاب قصيدة العمود من نشأة قصيدة التفعيلة؟ ألم تزل هي صاحبة الصولجان حينما تغنى. وما الضرر الذي يمكن أن تلحقه قصيدة النثر بقصيدة التفعيلة؟ أين الحرية إذن؟ انظر: إن الذين لا يكفون عن (الغناء) للحرية في قصائدهم العمودية والتفعيلية هم الذين يتربصون بليل لقصيدة النثر! وعلى أية حال فأنا فرحان لكون الشعراء الجدد أكثر رحابة من آبائهم.
رطانة وطراز رفيع

> أنت تنتمي إلى جيل لا يتم التوقف أمام شعرائه أو إنتاجه الشعري لدرجة أن شاعراً كبيراً قال إن العشرين سنة الأخيرة لم تنتج شاعرا مُهماً.. هل هذا صحيح؟ ولماذا هذا التجاهل؟
- لا أظن أن هذا حكماً موضوعياً من قريب أو بعيد. ثم ما هي مواصفات الشاعر "المهم" في نظره؟ ما هي المعايير التي اعتمد عليها في إصدار حكمه هذا؟ لماذا لا نفكر بأن الزمن قد استبدل "الشاعر المهم" بـ"الظاهرة الشعرية المهمة"؟ ومع هذا، فإن المرء ليخجل من أن يحسب نفسه شاعراً (مهماً)، أو أن يفكر في ذلك، أو أن يكون هذا وهمه! بينما أمته قد وصلت درجة غير مسبوقة من الهوان.
> هل تعتقد أن قصيدة النثر قد بدأت في التشكل بحيث يمكن إخضاعها لمعايير ثابتة عند التعرض النقدي لها، أم أنها بطبيعتها ضد التنميط؟
- أنت تعلم أن الشعر العربي كان أسبق من الخليل بن أحمد، وأسبق من كل النظريات النقدية، الظاهرة دائما تسبق النظرية. وقد تخلت قصيدة النثر عن ركيزتين أساسيتين في الشعر العربي، الوزن والقافية، فهي بهذا أصبحت ظاهرة مختلفة تستلزم نظرية نقدية مختلفة تكون بمثابة "عيار قصيدة النثر" وهذا لم يتحقق حتى الآن، وإن كان ثمة ملاحظات نقدية مهمة تجدها متفرقة في قراءات عديدة لكثير من النصوص التي تندرج تحت مسمى قصيدة النثر، إلا أن المعيار لا يزال بعيد المنال.
شاكر لعيبي ـ مثلا ـ يسلم بأن قصيدة النثر هي نوع شعري مخادع وصعب، فهي ـ كما يقول ـ على يد كثير من الشعراء من ممارسي الكتابة الشعرية رطانة صريحة وهي نفسها على يد شعراء متمكنين من أدواتهم الاستعارية والبلاغية نص من طراز رفيع. ولكنه لا يجيب على السؤال المهم، لماذا هي رطانة هنا، وطراز رفيع هناك؟
لو أن ناقداً حذقاً جمع كل نص صادفه وفتن به، ثم توقف ملياً أمامه ووضع يده على سر فتنته به، ثم جمع كل الأسرار المشتركة بين النصوص الفاتنة، لربما خرج علينا بمقدمة حقيقية لنظرية نقدية مواكبة لقصيدة النثر. بل يمكنه أيضا التأكد من مصداقية نظريته (validation of the theory) بتطبيقها على النصوص (الرطانات) ويتثبت من غياب أسرار الفتنة التي وقف عليها عن تلك النصوص!
من العابر إلى الفانتازي

> في السنوات الأخيرة اتجهت إلي ما يمكن تسميته "الشعر الديني"، وإن احتفظت بشكل قصيدة النثر ومفهومها، وقد ظهر ذلك في ديوانين أخيرين لك، ما هو السبب وراء هذا التغير؟ وكيف تستطيع المواءمة بين هذا المضمون وذاك الشكل؟
- تسمية "الشعر الديني" تعود بنا للوراء كثيراً، لعهود "أغراض الشعر"، فهذا شعر الرثاء، وذاك شعر الهجاء، وتلك قصيدة الغزل، وهذه قصيدة الزهد، إلى آخره.. وأظنك توافقني على أن قصيدة النثر لم تعد تخضع لهذه التقسيمات، التقسيمات التي لم تعد تصلح لوصف أو تصنيف النص الجديد، المركب بطبيعته، لهذا فأنا أتحفظ على مصطلح "الشعر الديني".
أنا أكتب قصيدة نثر، وأعرج بها على ما أشاء من مناطق، بدءأً بما هو عابر، مروراً بما هو فانتازي، ووصولا لما هو كوني، متكئأً على ما أشاء من مرجعيات وفلسفات وقناعات، وموظفاً كل ما أحب من أجل خلق النص الذي أرتضيه. وأنت تعلم الهواجس التي تنتابنا دائما خشية الوقوع في فخ التكرار أو إعادة إنتاج النص تحت مسميات مختلفة، الأمر الذي يأخذ بخناق قصيدة النثر نحو النمطية والتكلس بينما هي ابنة التحرر من القيود. إن ما فعلته ـ وليس من سبب وراء ما فعلت سوى أنني أحب الذي فعلت ـ أظن أنه يسهم في القضاء على تلك الهواجس.
وأما عن كيفية المواءمة بين هذا المضمون "الديني" و"قصيدة النثر"، فأقول ألم يكن الحب ـ مثلا ـ هو مضمون آلاف القصائد العمودية والتفعيلية وقد واءمنا بينه وبين قصيدة النثر؟ ليس العجيب أن تلج قصيدة النثر مثل هذه المناطق، لكن العجيب هو أن نرى تناقضاً في ما بينهما.
> منذ سنوات وأنت تعتزل الحياة الأدبية، فلا تتواجد في أماكن تجمع الأدباء ولا تدخل في جدلهم حول الموضوعات العامة أو الخاصة بالشعر. هل هناك دافع وراء هذا الغياب؟
- الدافع الحقيقي وراء هذا الغياب هو ضيق الوقت، فأنا أقضي ثمان ساعات يومياً في عملي المهني كباحث صيدلاني، وأخصص يوميْ الإجازة الأسبوعية عادة للقراءة، أما الكتابة فتأتي دائما في زحمة الانشغال، وفي الليل. وعملي هو مورد رزقي الذي أنفق منه على أسرتي وعلى الشعر أيضا، أشتري الكتب، وأصدر المجموعات، لقد أصدرت ست مجموعات شعرية ـ من بين ثمان مجموعات ـ على نفقتي الخاصة، ثم أنت تعلم كم هو منفر المناخ السائد في أغلب تلك الأماكن، وتعلم ما يدور في هذه التجمعات! لم يعد لدينا فائض وقت لنهدره، ولا مزيد من أعصاب لنحرقها في ما لا يجدي!
سطوة النقد المنافق

> كيف ترى المشهد المصري والعربي الآن.. هل هو مأزوم كما يقول النقاد؟ وكيف يمكن تقييم إنجاز الجيل الذي تنتمي إليه؟ وما هي الإضافة التي أضفتها للشعر العربي بعد كل هذه الدواوين التي أصدرتها؟
- النقاد يطلقون أحكاماً عامة ودون أية حيثيات!، لنفترض أن المشهد الشعري مأزوم، أليس المشهد العسكري مأزوم أيضا؟ والمشهد الاقتصادي والاجتماعي والعلمي؟ أليست الأمة كلها في مأزق تاريخي؟! إن إغفال الصورة بكاملها، والحديث عن مشهد أقصى من هامشي لهو أمر يخل بالمنطق.
إن جزءاً كبيراً من أزمة الشعر العربي تكمن أصلاً في أزمة المشهد العربي: في التخلف، وفي غياب الحرية، في سطوة النقد المنافق والفاسد. إنك حين تفتح عينيك على كارثة محدقة وتنتظر دورك في الالتهام، حتى لتغبط الذين أتيحت لهم الفرصة ليموتوا ميتة مشرفة، لن تتوانى عن كتابة نصك، نصك الذي تمتلك أدواته الخام، وماكينات تصنيعه، نصك الذي يستعصي على العقوبات والحصار. المشكلة إذن في المشاهد الأخرى، التي لم نعد نملك من أمرها إلا القليل.
أقولها إذن: المشهد الشعري هو أبعد المشاهد عن التأزم، وهو الذي يزود عن قطرة النور، وهو الأكثر ثراء، ولو عددت الأسماء الموزعة بين مصر والشام والخليج والمغرب العربي لاطمأننت على قطرة النور.


علي منصور يتوهج شعرا ، د. صلاح فضل ، جريدة الأهرام المصرية

http://yyy.ahram.org.eg/archive/2005/8/29/WRIT2.HTM

                                     



 



الكتاب

43365‏السنة 129-العدد2005اغسطس29‏24 من رجب 1426 هـالأثنين

علي منصور يتوهج شعرا
بقلم‏:‏ د‏.‏ صلاح فضل

علي منصور شاعر من حقبة التسعينيات‏,‏ ربما كان أنضج أصواتها العميقة‏,‏ درس علوم الصيدلة وحصل فيها علي درجة الماجستير‏,‏ ونشر أول ديوان له بعنوان لافت الفقراء ينهزمون في تجربة العشق عام‏1990,‏ ثم توالت أعماله بانتظام مدهش‏,‏ مجموعة شعرية كل عامين تقريبا‏,‏ حتي أصدر مؤخرا ديوانه الثامن بعنوان رزين هو الشيخ‏,‏ فكأنه قد شارف سن الحكمة في الأربعين‏,‏ وسرت إليه أحزانها الوضيئة‏,‏ ومباهجها العاقلة‏.‏ لكن شعورا مأساويا بالحياة‏,‏ ونبرة صوفية تبطنه بشجوها اللاهب‏,‏ يؤطر قصائد هذه المجموعة‏,‏ ويصهر كلماتها بوجده وتوهجه‏,‏ مما يجعلها من أصفي وأجمل مايمكن أن يطالعنا من شعر هذا الجيل‏,‏ ويرد لنا الثقة في مصير شعريته ومستقبل ابداعه‏.‏

والغريب في الأمر أنه يبلغ بنا هذه الدرجة من التفاؤل المشرق وهو ينعي نفسه‏,‏ ويسجل أقسي صور الاغتراب الموحش في إهدائه لديوانه‏:‏

إلي نبتة برية‏,‏ قرب مثواي الأخير

فكأنه يزرع بها بستانا من الشعر الحقيقي ويرويه بدم قلبه وفنه‏,‏ وكأن الشعر يجد منبته الخصب علي حافة الموت وفي رحاب المقدس‏,‏ فهو يغبط الجنايني‏,‏ عندما يقول له في واحدة من حباته الأخيرة‏:‏ أنت أيضا‏/‏ جنايني‏/‏ كل صباح‏/‏ ترش قلبك‏/‏ بالقرآن الكريم‏.‏ ولست أعرف تجربة علي منصور الشخصية في الصحة والمرض‏,‏ ولكن بوسعي ــ مثل غيري من القراء‏,‏ أن أدرك تجربته الروحية وخبرته الحميمة بعناصر الكون وقدرته اللافتة علي تشعيرها في قصائده‏.‏

ومع أنه يسخر في إحدي قصائده الطريفة من النقاد وهم يتحدثون عن شعرنة التفاصيل والفانتازيا‏,‏ فإنني أجد في القصيدة التي يستهل بها ديوانه أنشودة عذبة للطبيعة‏,‏ تذكرني بالشاعر اللاتيني العظيم بابلو نيرودا في أغانيه الفطرية التي يخاطب فيها الماء والهواء وعناصر الأرض‏.‏ أما علي منصور فهو يتحدث عن النبات ــ مادته الأثيرة في الدرس والتأمل ــ ويأمرنا بالصمت في عنوانها صه ليقول عنها‏:‏

النباتات‏,‏ ياصاحبي‏/‏ النباتات

تهرب الحكمة من لغونا

وتلوذ بصمت النباتات

حتي إذا ما هرمنا‏,‏

وصرنا شيوخا صامتين

عادت أدراجها‏,‏ وتوسدت تجاعيدنا‏!‏

وربما أطلت من عيوننا‏/‏ وابتسمت‏..‏

لحماقات اليافعين‏.‏

والجميل في عالم الإبداع أنك لاتعرف أبدا من أين ينبثق الشعر‏,‏ وكيف يتخلق‏,‏ فهو جدير بأن يطل عليك من مقلة صبي أو بسمة حسناء‏,‏ مثلما يطل عليك كما نري هنا من تجاعيد شيخ أو نبتة برية في الفلاة‏,‏ لكنه دائما يرتبط بروح الكون ليبث فيها شعورا إنسانيا دافئا بعناصرها الباقية‏,‏ ولمحة ذكية خاطفة لأسرارها الكامنة‏.‏ شاعرنا يعرف كيف يقرأ الصمت‏,‏ ويشهد تحولاته من النبات إلي الإنسان‏,‏ كيف يلوذ بالحكمة ويبتسم في أسي وإشفاق من حماقاته يافعا‏,‏ كي ينتشلنا من موكب الغافلين عن جوهر الوجود‏.‏

قالت زهرة‏:‏

يستقطر علي منصور من عناصر الطبيعة‏,‏ بحكم صنعته عطرها الفواح‏,‏ ينطقها بما يريد من بلاغة الحياة‏,‏ وهذا شأن الشعراء الحقيقيين في كل الثقافات‏,‏ لكنه يعرف كيف يقوم بتوزيع الأدوار‏,‏ وهندسة الأقوال‏,‏ وتشكيل المواقف بطريقة تضبط إيقاع الخطاب الشعري‏,‏ كي يخرج بمركب صيدلاني محسوب النسب ومضمون المذاق والفعالية‏,‏ فهو يقول مثلا في إحدي طبيعياته الرائقة‏:‏

قالت صخرة في البرية‏:‏

أيها العابر‏/‏ انتبه قبل أن تموت‏!‏

أيها الخائر في الليل‏/‏ واللاهث في النهار

هلا وضعت رأسك مرة‏/‏ في حجري

وسمعت تسبيح الملكوت‏!!‏

‏......‏

قالت شجرة في الغابة‏:‏

تشهد ياجذعي‏/‏ قددنا نصلهم

أولئك الذين‏,‏ حتي الأمس

كنت متكئا‏../‏ لظهورهم

‏..‏

قالت زهرة ياسمين‏/‏ أعلي السور‏,‏

فوحي يا أختاه‏!!/‏ فوحي

حتي يهتف العابر الجميل‏:‏

الله‏!!.‏

ومع أن هذا الشعر تفوح منه رائحة الحكمة المشرقية في كلمات جلال الدين الرومي وسعدي غير أنه من المواقع المطروقة التي يتوارد عليها المبدعون‏,‏ وما يعنينا منه هو هذا التوزيع الهارموني للعناصر الثلاثة‏:‏ صخرة وشجرة وزهرة‏,‏ تتدرج من الصلابة المطلقة إلي الهشاشة التامة‏,‏ لكن كلا منها يمتلك خبرته في مواقف متعددة ودلالات مختلفة‏,‏ تتصاعد في علاقتها بسر الكون‏,‏ ونقدها لسلوك البشر وتسامحها معهم حتي تصل إلي ذروة التفاني وتدرك حلاوة التضوع وقدسية الإعجاب بالجمال‏.‏

الغريب في سر هذه التركيبة الشعرية أن عنصر الإيقاع جوهري فيها‏,‏ سواء كان يسبح علي سطح النص من كسر التفاعيل والأوزان‏,‏ أم يتواري بتياراته المكنونة في الأعماق‏,‏ ومع أن إشباعه قد اعتمد طيلة آماد زمنية بعيدة علي منظومات الأوزان العروضية الملموسة والمقيسة كميا فإن تتابع التجارب الجديدة عبر ثورات الشعر المتتالية قد وضع قدرات الشعراء علي تحقيق التناغم الهارموني في الشعر مع غيبة الأوزان المطردة موضع الاختبار‏,‏ فاستطاعت كوكبة من كبار شعراء قصيدة النثر‏,‏ وشبابهم‏,‏ أن تجعلنا نتساءل عقب قراءة كل نص‏:‏ ما الذي ينقصه بالفعل من روح الموسيقي وعناصر الشعرية الفعالة وقد استطاع تعويض غياب هياكل النظم التقليدية وتوليد أضعافها من لذة جمالية خالصة‏,‏ لكن علينا أن نستمر في الكشف عن آليات هذا التوليد‏,‏ وأحسب أن كثيرا من نصوص علي منصور ومنها هذه القصيدة ذات الروح المشرقية الحكمية تحقق درجة عالية من التناغم المفعم بنشوة الموسيقي وبهجة الصورة في الآن ذاته‏.‏

الرجل الحزين‏:‏

قبل أن يلهج النقد الثقافي بالبحث عن منظومة القيم في الإبداع كان كبار النقاد يدركون دائما دور الشعر في بلورة الوعي وتشكيل الضمير المجتمعي عبر صناعة الرموز واستقطاب الضوء في بؤرة مشعة‏,‏ وأحسب أن البحث عن جماليات الحرية الذي ألح علي في السنوات الأخيرة ظل يفتقد عنصرا محددا ومهما لم أتبين كيف يتسني للشعراء علي وجه الخصوص أن يتمثلوه ويبشروا به‏,‏ وهو أن هذه الحرية ــ في تجليها السياسي ــ تتمثل في الديموقراطية‏,‏ لكن كيف يهبط الشعراء إلي غبار الشوارع وينشدون للديموقراطية؟ ظلت هذه المشكلة تؤرقني حتي قرأت قصيدة كأنها السياج في هذه المجموعة فكدت أهتف وجدتها‏,‏ يقول شاعرنا الجميل‏:‏

حزين جدا هذا الرجل‏/‏ أمام التلفاز

حزين‏../‏ وساكت

‏(‏كانوا يدلون بأصواتهم‏,‏ في الصناديق

وهو يتفرج عليهم‏)‏

ود لو جرب شعورا مثل هذا

قبل أن يموت‏!!‏

كأنها مزهريات‏,‏ هذه الصناديق

كأنها حدائق‏!‏

كأنها أراجيح أطفال‏/‏ يمرحون في الجوار

كأنها عربات رضع‏/‏ تدفعها أمهات فرحات في الجوار

كأنها شمعة‏../‏ تعد المساء لصديقين يبوحان بأسرار

كأنها موسيقي حنون

تهدهد قلب شاعرة نرويجية

وهي في غمرة الكتابة‏.‏

كأنها سياج‏/‏ يحرس الوطن

الحقول‏/‏ والمصانع‏/‏ والجامعات

وخلايا النحل التي تطن حول الصناديق

كنت أفرح بالشعراء الذين يتغنون ويضيئون طريق التقدم‏,‏ لكن أحدا منهم لم يكن قد عثر علي رمز أو أيقونة مجسدة لهذه المنظومة القيمية الجديدة علي عالمنا وثقافتنا العربية‏,‏ حتي جاء هذا الشاب الناحل الحزين ليشير إليها في تلقائية مدهشة وعفوية بديعة‏.‏ إنها صناديق الاقتراع المطهرة‏,‏ يتمني مثلي تماما أن يجرب الشعور بها قبل أن يموت‏,‏ لقد وضعنا عصر الصورة في قلب المحنة‏,‏ وأطلعنا علي مشاهد النعيم الذي لم نجربه‏,‏ ولظي الجحيم الذي نصلي به‏,‏ وكان لابد للشعر أخيرا أن يعقد قرانه مع صور التلفاز ويسهم في بلورة ذبذبات القلوب واصطياد خطرات الضمائر‏.‏ ومع أن شاعرنا يعتمد علي تقنية عتيقة‏,‏ لاتزيد عن أداة تشبيه أولية‏:‏ كأن‏,‏ فقد استطاع أن يفتح بها رؤي للمستقبل بحدائقه وأطفاله‏,‏ ورعشات البهجة الموسيقية الحنون وهي تغمر قلب مبدعيه بالاطمئنان إلي مستقبله‏.‏ استطاع الشاعر أن يري في هذه الصناديق عسل السعي الجماعي السلمي النظيف لصناعة حلاوة المستقبل من كل الأزهار المتفتحة‏,‏ واستطاع أن يري فيها الحماية الحقيقية للوطن المنتج المتكافل مثل خلايا النحل‏.‏ هل يحق لي أن أقترح علي واضعي مناهج النصوص الأدبية أن يدرجوا هذه القصيدة في مقررات
الشعر حتي يتربي أبناؤنا علي عشق الديموقراطية‏.‏

تقارير المراسلينالعالمالوطن العربيمصرالصفحة الأولي
ثقافة و فنونالرياضةإقتصادقضايا و أراءتحقيقات
المرأة و الطفلملفات الأهرامأعمدةالكتابالقنوات الفضائية
موضوعات في نفس الباب
~LIST~