الأربعاء، 12 فبراير 2014

علي منصور يتوهج شعرا ، د. صلاح فضل ، جريدة الأهرام المصرية

http://yyy.ahram.org.eg/archive/2005/8/29/WRIT2.HTM

                                     



 



الكتاب

43365‏السنة 129-العدد2005اغسطس29‏24 من رجب 1426 هـالأثنين

علي منصور يتوهج شعرا
بقلم‏:‏ د‏.‏ صلاح فضل

علي منصور شاعر من حقبة التسعينيات‏,‏ ربما كان أنضج أصواتها العميقة‏,‏ درس علوم الصيدلة وحصل فيها علي درجة الماجستير‏,‏ ونشر أول ديوان له بعنوان لافت الفقراء ينهزمون في تجربة العشق عام‏1990,‏ ثم توالت أعماله بانتظام مدهش‏,‏ مجموعة شعرية كل عامين تقريبا‏,‏ حتي أصدر مؤخرا ديوانه الثامن بعنوان رزين هو الشيخ‏,‏ فكأنه قد شارف سن الحكمة في الأربعين‏,‏ وسرت إليه أحزانها الوضيئة‏,‏ ومباهجها العاقلة‏.‏ لكن شعورا مأساويا بالحياة‏,‏ ونبرة صوفية تبطنه بشجوها اللاهب‏,‏ يؤطر قصائد هذه المجموعة‏,‏ ويصهر كلماتها بوجده وتوهجه‏,‏ مما يجعلها من أصفي وأجمل مايمكن أن يطالعنا من شعر هذا الجيل‏,‏ ويرد لنا الثقة في مصير شعريته ومستقبل ابداعه‏.‏

والغريب في الأمر أنه يبلغ بنا هذه الدرجة من التفاؤل المشرق وهو ينعي نفسه‏,‏ ويسجل أقسي صور الاغتراب الموحش في إهدائه لديوانه‏:‏

إلي نبتة برية‏,‏ قرب مثواي الأخير

فكأنه يزرع بها بستانا من الشعر الحقيقي ويرويه بدم قلبه وفنه‏,‏ وكأن الشعر يجد منبته الخصب علي حافة الموت وفي رحاب المقدس‏,‏ فهو يغبط الجنايني‏,‏ عندما يقول له في واحدة من حباته الأخيرة‏:‏ أنت أيضا‏/‏ جنايني‏/‏ كل صباح‏/‏ ترش قلبك‏/‏ بالقرآن الكريم‏.‏ ولست أعرف تجربة علي منصور الشخصية في الصحة والمرض‏,‏ ولكن بوسعي ــ مثل غيري من القراء‏,‏ أن أدرك تجربته الروحية وخبرته الحميمة بعناصر الكون وقدرته اللافتة علي تشعيرها في قصائده‏.‏

ومع أنه يسخر في إحدي قصائده الطريفة من النقاد وهم يتحدثون عن شعرنة التفاصيل والفانتازيا‏,‏ فإنني أجد في القصيدة التي يستهل بها ديوانه أنشودة عذبة للطبيعة‏,‏ تذكرني بالشاعر اللاتيني العظيم بابلو نيرودا في أغانيه الفطرية التي يخاطب فيها الماء والهواء وعناصر الأرض‏.‏ أما علي منصور فهو يتحدث عن النبات ــ مادته الأثيرة في الدرس والتأمل ــ ويأمرنا بالصمت في عنوانها صه ليقول عنها‏:‏

النباتات‏,‏ ياصاحبي‏/‏ النباتات

تهرب الحكمة من لغونا

وتلوذ بصمت النباتات

حتي إذا ما هرمنا‏,‏

وصرنا شيوخا صامتين

عادت أدراجها‏,‏ وتوسدت تجاعيدنا‏!‏

وربما أطلت من عيوننا‏/‏ وابتسمت‏..‏

لحماقات اليافعين‏.‏

والجميل في عالم الإبداع أنك لاتعرف أبدا من أين ينبثق الشعر‏,‏ وكيف يتخلق‏,‏ فهو جدير بأن يطل عليك من مقلة صبي أو بسمة حسناء‏,‏ مثلما يطل عليك كما نري هنا من تجاعيد شيخ أو نبتة برية في الفلاة‏,‏ لكنه دائما يرتبط بروح الكون ليبث فيها شعورا إنسانيا دافئا بعناصرها الباقية‏,‏ ولمحة ذكية خاطفة لأسرارها الكامنة‏.‏ شاعرنا يعرف كيف يقرأ الصمت‏,‏ ويشهد تحولاته من النبات إلي الإنسان‏,‏ كيف يلوذ بالحكمة ويبتسم في أسي وإشفاق من حماقاته يافعا‏,‏ كي ينتشلنا من موكب الغافلين عن جوهر الوجود‏.‏

قالت زهرة‏:‏

يستقطر علي منصور من عناصر الطبيعة‏,‏ بحكم صنعته عطرها الفواح‏,‏ ينطقها بما يريد من بلاغة الحياة‏,‏ وهذا شأن الشعراء الحقيقيين في كل الثقافات‏,‏ لكنه يعرف كيف يقوم بتوزيع الأدوار‏,‏ وهندسة الأقوال‏,‏ وتشكيل المواقف بطريقة تضبط إيقاع الخطاب الشعري‏,‏ كي يخرج بمركب صيدلاني محسوب النسب ومضمون المذاق والفعالية‏,‏ فهو يقول مثلا في إحدي طبيعياته الرائقة‏:‏

قالت صخرة في البرية‏:‏

أيها العابر‏/‏ انتبه قبل أن تموت‏!‏

أيها الخائر في الليل‏/‏ واللاهث في النهار

هلا وضعت رأسك مرة‏/‏ في حجري

وسمعت تسبيح الملكوت‏!!‏

‏......‏

قالت شجرة في الغابة‏:‏

تشهد ياجذعي‏/‏ قددنا نصلهم

أولئك الذين‏,‏ حتي الأمس

كنت متكئا‏../‏ لظهورهم

‏..‏

قالت زهرة ياسمين‏/‏ أعلي السور‏,‏

فوحي يا أختاه‏!!/‏ فوحي

حتي يهتف العابر الجميل‏:‏

الله‏!!.‏

ومع أن هذا الشعر تفوح منه رائحة الحكمة المشرقية في كلمات جلال الدين الرومي وسعدي غير أنه من المواقع المطروقة التي يتوارد عليها المبدعون‏,‏ وما يعنينا منه هو هذا التوزيع الهارموني للعناصر الثلاثة‏:‏ صخرة وشجرة وزهرة‏,‏ تتدرج من الصلابة المطلقة إلي الهشاشة التامة‏,‏ لكن كلا منها يمتلك خبرته في مواقف متعددة ودلالات مختلفة‏,‏ تتصاعد في علاقتها بسر الكون‏,‏ ونقدها لسلوك البشر وتسامحها معهم حتي تصل إلي ذروة التفاني وتدرك حلاوة التضوع وقدسية الإعجاب بالجمال‏.‏

الغريب في سر هذه التركيبة الشعرية أن عنصر الإيقاع جوهري فيها‏,‏ سواء كان يسبح علي سطح النص من كسر التفاعيل والأوزان‏,‏ أم يتواري بتياراته المكنونة في الأعماق‏,‏ ومع أن إشباعه قد اعتمد طيلة آماد زمنية بعيدة علي منظومات الأوزان العروضية الملموسة والمقيسة كميا فإن تتابع التجارب الجديدة عبر ثورات الشعر المتتالية قد وضع قدرات الشعراء علي تحقيق التناغم الهارموني في الشعر مع غيبة الأوزان المطردة موضع الاختبار‏,‏ فاستطاعت كوكبة من كبار شعراء قصيدة النثر‏,‏ وشبابهم‏,‏ أن تجعلنا نتساءل عقب قراءة كل نص‏:‏ ما الذي ينقصه بالفعل من روح الموسيقي وعناصر الشعرية الفعالة وقد استطاع تعويض غياب هياكل النظم التقليدية وتوليد أضعافها من لذة جمالية خالصة‏,‏ لكن علينا أن نستمر في الكشف عن آليات هذا التوليد‏,‏ وأحسب أن كثيرا من نصوص علي منصور ومنها هذه القصيدة ذات الروح المشرقية الحكمية تحقق درجة عالية من التناغم المفعم بنشوة الموسيقي وبهجة الصورة في الآن ذاته‏.‏

الرجل الحزين‏:‏

قبل أن يلهج النقد الثقافي بالبحث عن منظومة القيم في الإبداع كان كبار النقاد يدركون دائما دور الشعر في بلورة الوعي وتشكيل الضمير المجتمعي عبر صناعة الرموز واستقطاب الضوء في بؤرة مشعة‏,‏ وأحسب أن البحث عن جماليات الحرية الذي ألح علي في السنوات الأخيرة ظل يفتقد عنصرا محددا ومهما لم أتبين كيف يتسني للشعراء علي وجه الخصوص أن يتمثلوه ويبشروا به‏,‏ وهو أن هذه الحرية ــ في تجليها السياسي ــ تتمثل في الديموقراطية‏,‏ لكن كيف يهبط الشعراء إلي غبار الشوارع وينشدون للديموقراطية؟ ظلت هذه المشكلة تؤرقني حتي قرأت قصيدة كأنها السياج في هذه المجموعة فكدت أهتف وجدتها‏,‏ يقول شاعرنا الجميل‏:‏

حزين جدا هذا الرجل‏/‏ أمام التلفاز

حزين‏../‏ وساكت

‏(‏كانوا يدلون بأصواتهم‏,‏ في الصناديق

وهو يتفرج عليهم‏)‏

ود لو جرب شعورا مثل هذا

قبل أن يموت‏!!‏

كأنها مزهريات‏,‏ هذه الصناديق

كأنها حدائق‏!‏

كأنها أراجيح أطفال‏/‏ يمرحون في الجوار

كأنها عربات رضع‏/‏ تدفعها أمهات فرحات في الجوار

كأنها شمعة‏../‏ تعد المساء لصديقين يبوحان بأسرار

كأنها موسيقي حنون

تهدهد قلب شاعرة نرويجية

وهي في غمرة الكتابة‏.‏

كأنها سياج‏/‏ يحرس الوطن

الحقول‏/‏ والمصانع‏/‏ والجامعات

وخلايا النحل التي تطن حول الصناديق

كنت أفرح بالشعراء الذين يتغنون ويضيئون طريق التقدم‏,‏ لكن أحدا منهم لم يكن قد عثر علي رمز أو أيقونة مجسدة لهذه المنظومة القيمية الجديدة علي عالمنا وثقافتنا العربية‏,‏ حتي جاء هذا الشاب الناحل الحزين ليشير إليها في تلقائية مدهشة وعفوية بديعة‏.‏ إنها صناديق الاقتراع المطهرة‏,‏ يتمني مثلي تماما أن يجرب الشعور بها قبل أن يموت‏,‏ لقد وضعنا عصر الصورة في قلب المحنة‏,‏ وأطلعنا علي مشاهد النعيم الذي لم نجربه‏,‏ ولظي الجحيم الذي نصلي به‏,‏ وكان لابد للشعر أخيرا أن يعقد قرانه مع صور التلفاز ويسهم في بلورة ذبذبات القلوب واصطياد خطرات الضمائر‏.‏ ومع أن شاعرنا يعتمد علي تقنية عتيقة‏,‏ لاتزيد عن أداة تشبيه أولية‏:‏ كأن‏,‏ فقد استطاع أن يفتح بها رؤي للمستقبل بحدائقه وأطفاله‏,‏ ورعشات البهجة الموسيقية الحنون وهي تغمر قلب مبدعيه بالاطمئنان إلي مستقبله‏.‏ استطاع الشاعر أن يري في هذه الصناديق عسل السعي الجماعي السلمي النظيف لصناعة حلاوة المستقبل من كل الأزهار المتفتحة‏,‏ واستطاع أن يري فيها الحماية الحقيقية للوطن المنتج المتكافل مثل خلايا النحل‏.‏ هل يحق لي أن أقترح علي واضعي مناهج النصوص الأدبية أن يدرجوا هذه القصيدة في مقررات
الشعر حتي يتربي أبناؤنا علي عشق الديموقراطية‏.‏

تقارير المراسلينالعالمالوطن العربيمصرالصفحة الأولي
ثقافة و فنونالرياضةإقتصادقضايا و أراءتحقيقات
المرأة و الطفلملفات الأهرامأعمدةالكتابالقنوات الفضائية
موضوعات في نفس الباب
~LIST~

ليست هناك تعليقات: