الأربعاء، 12 فبراير 2014

(الشيخ ) في جريدة النهار اللبنانية

الشيخ




//

مقالي اليوم في النهار

//

الـشـــــيـخ.. لـعــــلـي مـنـــصـــــور

لـغــــة الــشـــــعــر ســـــــرديّـــة وزاهـــــــدة

..
القاهرة

..

يفتتح الشاعر علي منصور مجموعته الشعرية الثامنة، "الشيخ"، الصادرة حديثاً في القاهرة، لدى "دار شرقيات" للنشر، بإهدائه الموغل في الحزن "إلى نبتة في البرية، قرب مثواي الأخير"، متكئاً على حالة صوفية، أقرب ما تكون إلى الزهد الخالص، جوهرها الرغبة في الخلاص من أثر الواقع وجموده، ورومنطيقية جديدة تسعى إلى أنسنة الأشياء، والكائنات، والنباتات، والأشجار على وجه الخصوص، من دون الانتقاص من دورها في تشكيل خرائط الحياة: "النباتات، يا صاحبي،/ النباتات...!/ تهرب الحكمة من لغونا/ تلوذ بصمت النباتات!/ حتى إذا ما هرمنا،/ وصرنا شيوخا... صامتين/ عادت أدراجها،/ وتوسدت/ تجاعيدنا!".يقيم علي منصور في هيئته الصوفية هذه، تناصاً مع الآيات القرآنية، ليس بغرض إبراز الملمح الديني، والإلماح إلى هاجس مؤرق حول معنى الحياة، تُشحن فيه روحه بشاعرية تأتيه كلما أصاخ السمع إلى التلاوة القرآنية بمذاهبها المختلفة، بقدر اهتمامه بتطويع اللغة، وإكسابها دفقة موسيقية عالية: "لكنها يده التي استبقتني/ وهدهدت قلبي:/ (أنصت، لسورة الحديد، يا بني)/ وربت، ثانية، على كتفي/ ثم إبتسم للشجرة.../ الشجرة التي تقرأ/ برواية ورش عن نافع!". وهو يفعل ذلك في محاولة تجريد الكلمات من ضلالها، حين تخون المعنى، ويصبح الوقوف أمام تركيبتها ضرورة، تستحضر السؤال، والدهشة أمام القارئ، ليعيد التفكير فيها من جديد.يكتب علي منصور شعراً متناهياً في البساطة، غايته أن يشاركه العابرون لحظاته الأثيرة، من دون استعارات ضخمة، أو لغة مقعرة، تصبح كأبواب المدن الموصدة في وجه العابرين: "تفضل.../ أيها العابر الخفيف، تعال.../ هنا إلى جواري/ حيث نفسح للحكاية والدموع". حين يطمئن إليه العابر، يفرش ماضيه بين يديه، ويقص عليه حكاية البنت، التي كان يرتبك كثيراً حينما يراها، البنت التي دق قلبه حتى فضحه عندما دنت منه، وفتحت في صدره نهراً، وأنعشته بالياسمين حين تزوجها.يهيىء الشاعر قارئه في أكثر من قصيدة، لتأمل حاله العربية، السياسية الراهنة، التي لا يملك فيها رأياً، أو قدرة على المشاركة في صنع قرار يخصه، خاضعاً لمبررات الهيمنة الخارجية. يدعوه إلى أن يجرب حياة أخرى، أن يترك أثراً عربياً غير الهوان، يستحق أن يعيش من أجله، وأن يقتنص حياته من يد مغتصبيها: "الغرباء الذين تتابعوا ها هنا، خفية/ وواقعوا نسوة في الدّبر،/ مضوا.../ مخلفين وراءهم روائحهم السامة/ وبقايا/ آهاتٍ/ مقفاةٍ/ بقهقهات الشياطين".حين يتربّى الشعر على الحكايات، ويحتل السرد أعمدة بنائه، تصبح السيرة جزءاً من نسيج القصيدة، ويكون للراوي رائحة، ينجذب إليها الشارد، ويستريح إلى ظله المتعب. ذلك ما يوظفه علي منصور في مجموعته، حين يدعو القارىء للجلوس إلى راويه: "مساء جمعة من شتاء،/ - أمام بيتنا القديم -/ أشعل أبي النار في الخشب./ فالتففنا.../ على المصطبة.../ في اتجاه اللهب./ تماماً.../ كأسلافنا القدماء/ في لوحة/ على جدران مقبرة". ويكتمل المشهد بـ"شيخ القراءات السبع"، الذي تمنى الشاعر أن يكونه، أو أن يكون له صوته، لما تركه من أثر عميق في وجدانه، وبات يراه أينما حَلّ.وإمعاناً في الزهد يبحر في الأبجدية، التي تبدأ بالألف وتنتهي بالياء، ليعود إلى مبتغاه، ويجرد الحروف من تضليلها للقارىء: "كم هو زائف، انتصاب تلك الألف!/ كم هو شكلي،/ وكله خداع!/ انظروا.../ وأنظر يا علي.../ إنه ينتصب على شيء دنيء!/ شيء متاع".الجزء الأخير من المجموعة، "حَبّ ونوَى"، يخصه الشاعر بمجموعة من القصائد القصيرة، المكتنزة المعنى، والتي تعطي مدلولها مباشرة، بوهج شاعري دافق، مغلفة بنوع من حكمة الشيخ، التي خبرها من حياته الأولى في بداية المجموعة الشعرية، مستعيداً صوت الراوي، وهو يجلس تحت شجرة المعرفة، يعلّم الناس، ويبث في أرواحهم ملامح الجَمال: "يمكنك أن تصبح جميلا، فوق ما تتصور/ فقط/ اعتن بقلبك/ ودعه يحب الآخرين"، وإن لم يكن في مقدوره أن يجتاز ويسمو، على الأقل يمكنه الإنصات إلى نفسه: "لا تكن حجر عثرة/ في طريق/ كن قنطرة، بين ضفتين"."الشيخ" علي منصور يعكف في معمله الصيدلي، على نباتات الشعر، وأشجاره، يحلّلها، ويجرب أن يستدل من النواة المتناهية الصغر، على حياة الغابة بأكملها، يستقي من تفاعلاتها خلاصة التجربة الشعرية، يبثها في قصائده بزخم إنساني فياض، ليؤكد إخلاصه لقصيدة النثر، في ثماني مجموعات شعرية، بدأها بـ"الفقراء ينهزمون في تجربة العشق" عام 1990، واستمر في بناء مشروعه الشعري بصمت، وشغف لتجريد اللغة من زوائدها، وإستخلاص روح الشعر، مستفيداً من روح العصر، من دون أن يتخلى عن تراثه العربي، وهو ما يستحق عليه إلتفاتاً نقدياً منصِفاً
..

محمد العشري

//

ليست هناك تعليقات: